بسم الله الرحمن الرحيم
أسبابُ مغفرة الذنوبالشيخ. عبدالله بن عبدالرحمن السَّعدإن مغفرة الذنوب غاية كل مسلم ومطلب كل مؤمن لأنه عندما تغفر ذنوب العبد من قبل ربه - عز وجل - فإن في هذا سعادته في الدنيا والآخرة.
قال - تعالى -: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]، وقال - تعالى -: {وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر: 9].
فعلى كل مسلم أن يسعى إلى تحقيق هذه المغفرة له من قبل الله - عز وجل -، وذلك بفعل الأسباب التي جعلها الله - عز وجل - سببًا لغفران الذنوب والتجاوز عن السيئات والعيوب، وهذه الأسباب سبعة (1) هي:
أولاً: التوبة إلى الله - عز وجل -: التوبة هي: رجوعُ العبد إلى الله والإنابة إليه، ولها شروط ثلاثة وهي: الندم، والإقلاع عن الذنب، والعزيمة على عدم العودة، وإن كان ذلك في حق أخيك المسلم فترد عليه حقه أو التحلل منه.
والتوبة من أفضل الأعمال وأجل القربات التي يتقرب بها العبد إلى ربه - عز وجل -، وقد بين مكانة هذه العبادة عند الله - عز وجل – الرسول - صلى الله عليه وسلم- بقوله: «للّهُ أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ، حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلاَةٍ. فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ. وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ. فَأَيِسَ مِنْهَا. فَأَتَى شَجَرَةً. فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا. قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ. فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ. فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا. ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ. أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ» رواه البخاري ومسلم (2).
وقد أمره الله - عز وجل - بذلك، فقال - تعالى -: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]، وقال - تعالى -: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].
قد كان (يكثر من الاستغفار والتوبة إلى الله - عز وجل - حتى أنه في المجلس الواحد يتوب إلى الله ويستغفره سبعين مرة، فقد أخرج البخاري من حديث أبي هريرة قال: سمعتُ رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم- يقول: «واللّهِ إني لأستغفرُ اللّهَ وأتوبُ إليه في اليوم أكثرَ من سبعينَ مرَّة» رواه البخاري (3).
وفي حديث الأغر بن يسار قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : «يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللّهِ، فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ، إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ» رواه مسلم (4).
وقد شرع الله لعباده الاستغفار بعد الأعمال الصالحة كالصلاة والحج، قال - تعالى -: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199]، وعن ثوبان قال: « كان رسول الله إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً » رواه مسلم (5).
ثانياً: تحقيق التوحيد واجتناب الشرك: قال - تعالى -: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]، أي: آمنوا بالله ولم يلبسوا إيمانهم بشرك، فلهم الأمن في الآخرة، وهم مهتدون في الدنيا.
فالتوحيد هو أساس الدين، وهو الشرط الأول لقبول القربات والطاعات ومغفرة الذنوب، وتحقيقه يكون بتخليصه وتصفيته من شوائب الشرك والبدع والمعاصي، فيكون بإفراد الله - عز وجل - بالعبادة وإثبات ما أثبته الله لنفسه، ومراقبته والتعلق به، وكثرة دعائه واللجوء إليه، والإتيان بالأركان والواجبات وتكميل ذلك بالسنن والمستحبات.
وترك ما ينافي ذلك كله من الشرك الأكبر الذي ينافي أساس التوحيد وأصله، وترك الشرك الأصغر والكبائر والتي تنافي كمال التوحيد الواجب، وترك كل ما ينافي كماله المستحب من الاسترقاء - وهي طلب الرقية من الغير -، ومثله الاكتواء، كما جاء في حديث ابن عباس (في السبعين ألف الذين يدخلون الجنة بلا حساب) (6).
ومما يحقق التوحيد محبته ـ محبة التوحيد وأهله والذود عن أعراضهم والرد على مخالفيهم، قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن - رحمه الله -: من لم يحب التوحيد لم يكن موحدًا؛ لأنه هو الدين الذي رضيه الله لعباده، كما قال - تعالى -: {وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} (7).
وقال الإمام ابن تيمية - رحمه الله - : من أحب الله أحب دينه، وما لا فلا.
كما أن الشرك أعظم سبب يمنع العبد من مغفرة الذنوب، قال - تعالى -: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].
فتحقيق التوحيد واجتناب الشرك من أعظم الأسباب التي يتحقق من خلالها المغفرة للعبد، فقد أخرج مسلم عن أبي ذر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: «يَقُولُ اللّهُ - عز وجل -:..... وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطِيئَةً لاَ يُشْرِكُ بِي شَيْئاً، لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً» (
.
وأخرج الترمذي من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: «إِنَّ الله سَيُخَلِّصُ رَجُلاً مِنْ أُمَتِي عَلَى رُؤُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلاًّ، كُلُّ سِجِلٍ مِثْلُ مَدّ البَصَرِ ثُمَّ يَقُولُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئَاً؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحافِظُونَ؟ فيَقُولُ: لاَ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ؟ فَيَقُولُ: لاَ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً فَإِنَّهُ لاَ ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ، فَتُخْرَجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ، فَيَقُولُ: يَا ربِّ مَا هَذِهِ البِطَاقَةُ مَع هَذِهِ السِّجِلاَّتُ؟ فَقَالَ: فَإِنَّكَ لاَ تُظْلَمُ. قالَ: فَتُوْضَعُ السِّجِلاَّتُ فِي كِفَّةٍ وَالِبطَاقَةُ في كِفَّةٍ، فَطَاشَتْ السِّجِلاَّتُ وَثَقُلَت البِطَاقَةُ، ولا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ الله شَيْءٌ» إسناده جيد، وقد صححه ابن حبان والحاكم (9).
قال ابن رجب: من جاء مع التوحيد بقراب الأرض خطايا لقيه الله بقرابها مغفرة... إلى أن قال: فإن كَمُل توحيد العبد وإخلاصه لله - تعالى - فيه، وقام بشروطه بقلبه ولسانه وجوارحه، أو بقلبه ولسانه عند الموت أوجب ذلك مغفرة ما قد سلف من الذنوب كلها، ومنعه من دخول النار بالكلية، فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه أخرجت منه كل من سوى الله محبة وتعظيماً، وإجلالاً ومهابة، وخشية وتوكلاً، وحينئذ تحرق ذنوبه وخطاياه كلها، وإن كانت مثل زبد البحر. ا. هـ ملخصًا (10).
قال العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى -: ويُعفى لأهل التوحيد المحض الذي لم يشوبوه بالشرك مالا يعفى لمن ليس كذلك، فلو لقي الموحد الذي لم يشرك بالله شيئاً البتة ربه بقراب الأرض خطايا أتاه بقرابها مغفرة، ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده، فإن التوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك لا يبقي معه ذنب؛ لأنه يتضمن من محبة الله وإجلاله وتعظيمه وخوفه ورجائه وحده ما يوجب غسل الذنوب، ولو كانت قراب الأرض، فالنجاسة عارضة، والدافع لها قوي. ا. هـ. (11).
ثالثاً: الأعمال الصالحة: هذا السبب من الأسباب العظيمة التي يحصل بها مغفرة الذنوب سواء كان العمل من الواجبات أو المستحبات، والأدلة على ذلك كثيرة جداً منها:
قوله - تعالى -: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] فلا يدخلون الجنة إلا بغفران ذنوبهم.
وقوله - تعالى -: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال 2-4]، فإقامة الصلاة في وقتها وبأركانها وواجباتها وإخراج الزكاة وغير ذلك من الأعمال الصالحة سبب لمغفرة الذنوب والرزق الكريم.
عن عمرو بن عبسة السلمي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: «مَا مِنْكُمْ رَجُلٌ يَقُرِّبُ وُضُوءَهُ فَيَتَمَضْمَضُ وَيَسْتَنْشِقُ فَيَنْتَثِرُ إِلاَّ خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ وَفِيهِ وَخَيَاشِيمِهِ. ثُمَّ إِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ كَمَا أَمَرَهُ الله إِلاَّ خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ مِنْ أَطْرَافِ لِحْيَتِهِ مَعَ الْمَاءِ. ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ إِلاَّ خَرَّتْ خَطَايَا يَدَيْهِ مِنْ أَنَامِلِهِ مَعَ الْمَاءِ. ثُمَّ يَمْسَحُ رَأْسَهُ إِلاَّ خَرَّتْ خَطَايَا رَأْسِهِ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ مَعَ الْمَاءِ. ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ إِلاَّ خَرَّتْ خَطَايَا رِجْلَيْهِ مِنْ أَنَامِلِهِ مَعَ الْمَاءِ. فَإِنْ هُوَ قَامَ فَصَلَّى، فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَمَجَّدَهُ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، وَفَرَّغَ قَلْبَهُ لله، إِلاَّ انْصَرَفَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» رواه مسلم (12).
وفي «الصحيحين»: «مَنْ صامَ رَمَضانَ إيماناً، واحْتِساباً، غُفِرَ لهُ ما تَقدَّم مِنْ دَنْبه»، (13) وفي رواية: «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه»، (14) وفي رواية: «من قام ليلة القدر» (15).
وسئل - صلى الله عليه وسلم- عن صوم يوم عرفة فقال: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ». وسئل - صلى الله عليه وسلم- عن صيام يوم عاشوراء فقال: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيةَ» (16).
والأدلة في هذا كثيرة من القرآن والسنة، وهذا أمر معلوم لدى كل مسلم، فعلى كل أحد أن يكثر من الأعمال الصالحة قولية كانت أم فعلية.
رابعاً: اجتناب السيئات والذنوب: قال - تعالى -: {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى * الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم: 31-32].
وقال - تعالى -: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء: 31].
فهذا وعد من الله لعباده أنهم إذا اجتنبوا كبائر المنهيات غفر لهم جميع الذنوب والسيئات، وأدخلهم مُدخلاً كريماً ـ كثير الخير ـ وهي الجنة المشتملة على ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
ويدخل في اجتناب الكبائر: فعل الفرائض التي يكون تاركها مرتكباً للكبائر، كما أخرج الإمام مسلم في «صحيحه» من حديث أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم- : «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ» (17)، فاجتناب السيئات والذنوب بشتى أنواعها سبب لغفران الذنوب.
خامساً: الإحسان إلى الناس وكف الأذى عنهم: قال - تعالى -: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22].
سبب نزول هذه الآية أن أبا بكر كان يتصدق على مسطح بن أثاثة، فعندما حصل منه ما حصل تجاه عائشة - رضي الله عنها - امتنع من الإحسان إليه، فنزلت هذه الآية الكريمة، كما في «الصحيحين» من حديث عائشة - رضي الله عنها - (18).
وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: «بينما رجل يمشى بطريق ـ وفي رواية امرأة بغياً ـ أشتد عليه العطش فوجد بئراً فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ماء، ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له» قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في هذه البهائم لأجر. فقال: «في كل كبد رطبة أجر». رواه البخاري (19).
فغفر لهذه المرأة بسبب إحسانها لهذا الكلب، فكيف بمن يحسن إلى الناس، ويسعى إلى تفريج كربهم؟!
وعن حذيفة بن اليمان قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: «ماتَ رجُلٌ، فقيلَ لهُ: ما كنتَ تقولُ؟ قال: كنتُ أُبايِعُ الناسَ، فأتجوّزُ عنِ الموسِرِ وأُخَفّفُ عنِ المُعسِرِ. فغُفِرَ لهُ». رواه البخاري (20).
وكما أن أذى الناس من الأسباب المانعة لمغفرة الذنوب، قال - تعالى -: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب: 58].
وعن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ » قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ. فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي، يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَـذَا، وَقَذَفَ هَـذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَـذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَـذَا، وَضَرَبَ هَـذَا. فَيُعْطَى هَـذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَـذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ. فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ، قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ. أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ. ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» رواه مسلم(21).
فالإحسان إلى الناس، والتخفيف عنهم، وتفريج كربهم، وقضاء حوائجهم، وكف الأذى عنهم، سبب لمغفرة الله للعبد.
سادساً: المصائب والبلاء الذي يصيب المسلم في الحياة الدنيا. قال - تعالى -: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران 139ـ 142]
وقال - تعالى -: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 110]
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : « ما من مصيبة تصيبُ المسلم إلا كفَّر الله بها عنه، حتى الشوكةَ يشاكها». رواه البخاري ومسلم (22)
وعن أبي سعيد الخدري، وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: «ما يُصيبُ المسلمَ من نَصبٍ ولا وَصَبٍ ولا همّ ولاَحَزَن ولا أذى ولا غَمّ ـ حتى الشَّوكةِ يُشاكها ـ إلا كفَّرَ اللهُ بها من خَطاياه».. رواه البخاري (23)
وعن أبي هريرة (قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم- : «ما يَزَالُ الْبَلاَءِ بالمُؤمِنِ وَالمُؤْمِنَةِ في نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى الله وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ». رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح (24).
سابعاً: دعاء الله - عز وجل -. فإن دعاء الله - عز وجل - سبب عظيم لمغفرة الذنوب والتجاوز عن العيوب والسيئات. قال - تعالى -: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران: 193ـ195].
وعن أبي بكر (قال: قلت: يا رسول - صلى الله عليه وسلم- علمني دعاء أدعوا به في صلاتي. قال: « قل: اللّهمَّ إِني ظَلمتُ نفسي ظلماً كثيراً، ولا يَغفِرُ الذُّنوبَ إلاّ أنتَ، فاغفِرْ لي مَغفِرةً من عِندكَ، وارحمني إِنك أَنتَ الغفور الرَّحيم». رواه البخاري ومسلم (25).
فعلى العبد أن يكثر من دعاء الله - عز وجل - أن يغفر له ذنوبه ويتجاوز عن عيوبه، لاسيما في أوقات الإجابة، كجوف الليل الآخر، وآخر ساعة من يوم الجمعة، وبين الأذان والإقامة، وغير ذلك.
وقال - تعالى -: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21].
فيا أيها المسلم عليك بالسعي بتحصيل أسباب المغفرة وخاصة في الأزمنة الفاضلة، والأماكن المعظمة، قبل أن ينزل بك الأجل. هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الهوامش:
(1) انظر للفائدة كلاماً للإمام ابن تيمية في مكفرات الذنوب حيث عدها عشرًا، وللشيخ عبدالله بن عقيل نحو ذلك.
(2) البخاري (6164) ومسلم (6909) واللفظ له، من حديث أنس.
(3) البخاري(6162).
(4) مسلم (6809).
(5) مسلم (1285).
(6) البخاري (5620) ومسلم (220).
(7) انظر مجموعة التوحيد 1/51.
(
مسلم (2687).
(9) الترمذي (2708) وابن حبان (224) والحاكم (9).
(10) جامع العلوم والحكم 1/398.
(11) إغاثة اللهفان 1/63.
(12) مسلم (1880).
(13) البخاري(38) مسلم (1731) من حديث أبي هريرة.
(14) البخاري (37) مسلم (1729).
(15) البخاري (1802).
(16) مسلم (2700).
(17) مسلم (505).
(18) البخاري (2609) مسلم(2770).
(19) البخاري (2423) مسلم (5811).
(20) البخاري (2350).
(21) مسلم (6531).
(22) البخاري (5513) مسلم (6517).
(23) البخاري (5514).
(24) الترمذي (2441).
(25) البخاري (825) مسلم (6819).